من أنا؟
Thursday, August 9, 2007
سأحكي لكم
كل ما أعرفه أنني ولدت وأوراق اللعب في يدي.. سمعت أن أبي كان لاعبا كبيرا يكتسب الوفا من الجنيهات من القمار.. وسمعت أن جدي كان كذلك.. لم أر والدي فقد مات في احدي معارك القمار..ويقال إنه ربح مبلغا من المال واكتشف زملاؤه انه كان يخفي الأوراق تحت قدميه.. فضربوه وقتلوه.. ولما سألت أمي عن سبب وفاة ابي كانت تقول: انه كان يدمن الشراب.. وكان اذا شرب لايفيق.. وانه شرب زجاجة من الخمر دفعة واحدة..وعرفت بعد ذلك أن أمي كانت تخفي الحقيقة عني.. ولكني عندما كبرت آمنت أن أمي لم تكن تكذب, ولم تكن تحاول اخفاء الحقيقة, وإنما قالت الحق.. فلعب الورق كالخمر بل أقسي من الخمر.. ولاعبه لايفيق.. بل انه لايصحو أبدا. انه مفتوح اليدين, جيبه لايشبع, ويده لاتقنع. والآن أستطيع بعد هذه المقدمة أن أبدأ قصتي.. وأن أقدم نفسي..أنا الطفل الوحيد لأمي.. لم أر أبي كما ذكرت.. ولا أعرف كيف ادخلتني أمي المدرسة.. وكنت أراها تخرج مع الشمس.. وتعود مع الليل.. وعرفت بعد ذلك أنها تعمل في أحد البيوت خادمة.. وعرفت أنها ترهق نفسها بالعمل.. ولم أكتشف إلا أخيرا أن كل هذا الارهاق كان من أجلي أنا.. وأمي كان يكفيها القليل من الطعام والشراب والقليل من الملبس.. إنها كانت تحتفظ بثوب تذهب به إلي السوق.. وكانت تدعو لأبي في صلاتها ولابنها الوحيد.. الذي يشبه أباه في كل شيء.. في حركاته العصبية وثورته.. وفي ميله للعب واللهو, وفراره من المدرسة إلي البيت.. وحاولت أمي بكل قواها وكل دموعها أن تردني عن الشارع, عن اللعب, عن النوم في الطريق.. عن ضرب الأطفال واسالة دمائهم.. ولكن أمي لم تفلح.. حاولت أمي أن تجعل مني إنسانا أليفا.. أن تجعلني تلميذا نظيف الملابس.. نظيف الكلام, نظيف اليدين.. ويؤسفني أن أقول إن أمي لم تفلح.. ويئست أمي.. وبلغ بها اليأس أقصي درجاته.. فقالت لي يوما:ـ اسمع يابني.. انني مريضة.. وقد عملت كل شيء من أجل صحتك وتعليمك. ولكن لا أستطيع.. إنني حاربت كل الأعداء فيك.. حاربت فيك طباع والدك, وحاربت فيك استخفاف خالك.. وحاربت فيك ضعفي.. ولا أمل لي في سلام أو راحة معك.. والأمر الآن لك.. لقد قررت أن ألزم البيت.. وأن أقنع بالقليل من المال.ولم أجد ما أقوله لها.. وإنما خرجت من البيت ولم أعد.. وانتقلت من بلد إلي بلد.. تسبقني سمعتي وشهرتي كأعظم لاعب للورق في كل هذه المنطقة.. وقال الناس عني إنني الساحر الصغير.. وقالوا العملاق ذو الأصابع الذهبية.. ومرعب الورق.وكانت هذه الألقاب تملأ نفسي بالغرور.. انها تشبه الألقاب التي يطلقونها علي أبطال الرياضة.. وكنت اذا ترددت علي المقاهي أشار الناس إلي.. وأفسحوا لي الطريق.. وكنت اذا جلست إلي مائدة القمار.. لا أرفع عيني عن الورق ولا عن النقود.. وكنت لا أعرف متي يبدأ الليل, ولا حتي يبدأ النهار.. الليل مربوط بأول النهار, والنهار مربوط بآخر الليل.. والنهار والليل يدوران حولي.. كما يلعب الأطفال الصغار حول أمهم, وأنا سعيد بهذا كله.واشتريت سيارة جديدة.. واهديت هذه السيارة لسيدة رأيتها تبكي, لأن أحد اللصوص سرق بيتها, وسرق ملابس ابنتها التي ستزف بعد أيام.. واكتشفت بعد ذلك أنني ارتكبت عملا سيذكره التاريخ علي أنه أعظم مايقوم به إنسان أحمق.. ولكنني لم آسف علي ذلك ولم أغضب. إنني أستطيع ان أجمع ثمن السيارة في ليلة أو ليلتين.. وإلا فأين ذهبت أصابعي الذهبية.. وكنت أعطف علي الناس.. واعطيهم من جيبي.. بل إنهم كانوا يأخذون أموالي دون استئذان مني..واذكر أنني أويت صديقا في بيتي.. وعرفت بعد ذلك انه كان هاربا من القانون وانه قتل زوجته.. وقتل ولديه التوءم.. وجزعت جزعا شديدا.. وتركت البيت وتركت كل مافيه من أثاث..وتقدمت لخطبة فتاة.. فأعجبها مظهري.. ولما علمت أنني أجمع أموالي من القمار رفضت أن تتزوجني.. وادهشني هذا الرفض.. وكانت هذه أول مرة أسمع فيها كلمة: لا.. وباصرار شديد.. تعلقت بالفتاة.. وألححت في زواجها. ولكنها رفضت دون أن تبدي أية محاولة لاقناعي.. كأنني أختلف معها في أول مبدأ من مبادئها..وكدت أفقد صوابي.. ولكن الفتاة أصرت علي الرفض.. وأصررت أنا علي أن أسمع وجهة نظرها..وقابلتها في عرض الطريق.. وقلت لها: يجب أن أسمع منك الآن, لماذا ترفضين الزواج بشاب وسيم في الثلاثين من عمره.. ويملك خمسة آلاف جنيه؟!فقالت: ولكن كم من السنين ستبقي هذه الأموال.. إن أموال القمار كالشمع.. تذوب قبل ان يكون لنا طفل واحد ننفق عليه.. ولن تستطيع ان تجمع بيني وبين منضدة القمار!!هل تستطيع أن تحب اثنين في وقت واحد.. أنا لا أستطيع. ولذلك أرفضك وأرفض أموالك وأضيف إلي هذا كلمة واحدة.. أرجو أن تظل عالقة بأذنك وأذن أخي هو الآخر.. هذه الكلمة أرجو أن تحفظها وأن تعلقها أمامك علي الحائط.. احتقرك!!! هذه هي الكلمة وإياك ان تخطئ في كتابتها.. وإذا أخطأت فأنا علي استعداد لأن أكتبها لك.. وان أبعثها لك كل صباح.. احتقرك.. تذكر هذه الكلمة جيدا!!نسيت أن أقول ان هذه المناقشة أو هذه المعركة قد وقعت أمام الناس.. وفي الشارع.. ونسيت أن أقول.. إنها بصقت في وجهي!ولم أنم تلك الليلة.. ولا عشرات الليالي بعدها.. لم أذهب إلي منضدة القمار.. ولم أنظر من نافذة ولا من باب.. وإنما ظللت أتمرغ في فراشي محموما.. وتحت تأثير هذه الحمي كنت مشغولا بعدد من الأطباء وأسمائهم.. وأسماء الممرضات في المستشفي.. ولم تشأ هذه الفتاة أن تزورني..وفي يوم خروجي من المستشفي.. مررت بأحد المساجد.. وصليت الظهر لأول مرة في حياتي كلها.. وبكيت لأول مرة في حياتي.. وأخذت قرارا واضحا لأول مرة أيضا.. وبدلا من ان أتجه إلي بيتي.. اتجهت الي بلدتنا التي فررت منها منذ عشرين عاما.. إلي أمي!وفي الطريق جلست في المقعد الخلفي للسيارة.. حالما ذاهلا.. لا أفكر في شيء وإنما أطرد عن رأسي أي تفكير في أي شيء.. ووضعت يدي في جيبي كأنني أخفي الدم الذي يجري بين أصابعي.. إنه دم الورق.. أو دم السرقة.. أو دم الجريمة.. لا أدري..وبدا لي أن أسأل السائق ان كان يعرف الطريق.. فقال إنه من أبناء هذه القرية..إذن هو من بلدنا.. إذن هو يعرف أهلي.. فسألته: كيف حال العمدة حسن الأشقر.. وكان هذا هو اسم أبي..فسكت السائق طويلا ثم قال: لكن العمدة الأشقر قد مات يا سيدي منذ وقت طويل.. منذ أكثر من 15 عاما!!وعاد السائق يقول:هل أنت من أقاربه يا سيدي؟فقلت: إنه والدي..وسكت السائق وفي دهشة أو احتقار ـ لا أدري ـ مضي يقول: البقاء في حياتك يا سيدي.. أظنك جئت لتزور قبر أمك.. لقد جئت متأخرا يومين كاملين..إذن لقد ماتت أمي.. منذ يومين.. ماتت في اللحظة التي قررت فيها ان أزورها.. أن أراها.. أن أقول لها إنني قررت أن أكف عن لعب الورق لعل أمي قد أحست أنني قد تبت عن هذه اللعبة.. وكانت تتمني ذلك.. لقد ماتت أمي في اللحظة التي تحققت فيها أعز أمانيها..ووقفت بنا السيارة عند المقابر..وانطلقت بين القبور حتي بلغت قبرا جديدا أبيض..ورأيت اسم أمي منقوشا عليه.. لقد ادخرت كل أموالها لتقيم هذا القبر..وركعت عند حافة القبر وظللت هكذا صامتا.. ولم أملك أن أحبس دموعي.. وانطلقت كل الدموع التي احتجزتها في رأسي عشرين عاما.. وجعلت أرتجف وأمد يدي إلي الأرض وأمسك حفنة من التراب وأقبلها.. ثم أضعها في جيبي..وفي هذه الأثناء أحسست بهمس يقترب مني وتواريت وراء إحدي الأشجار.. ووجدت فتي وفتاة يقبلان نحو المقبرة. ويركعان ويقبلان التراب.. وينهضان.. ويضع الفتي يده حول خصر الفتاة وتسأله الفتاة:ــ وأنت كم كسبت أيضا؟ــ عشرة جنيهات.. وأنت كم كسبت؟ــ سبعة جنيهات..وخرجت من وراء الشجرة وقلت:ــ عفوا.. هل أنتما تعرفان صاحبة هذا القبر؟فقالا معا..ــ نعم.. إنها أمنا..إذن لقد تزوجت أمي بعد فراري من البيت وأنجبت هذين الأخوين!!فقلت: يظهر أنكما تلعبان القمار..فقالا: نعم.. ونحن مدينان بمبلغ عشرين جنيها.. فإذا جمعنا هذا المبلغ فلن نلعب القمار أبدا.. وقد عاهدنا أمنا علي ذلك قبل موتها.. ونحن متمسكان بهذا العهد..فقلت: ومن الذي علمكما القمار في هذه السن الصغيرة؟فقالت الفتاة: لا أعلم.. ولكن وجدنا عند أمنا عشرات من صناديق أوراق اللعب.. وكنا نلعب خلسة واليوم نلعب علانية.. ولكن سنتوقف عن اللعب قريبا..فقلت:أليس لكما أخ؟فقالا معا: لنا أخ.. إنه يلعب القمار أيضا.. ولكن لا ندري.. أهو حي أم ميت!!فبكيت.. ووضعت ذراعي حول أخي وأختي.. وركعنا جميعا عند قبر أمنا وقبلنا التراب بأفواهنا.. واتفقنا علي ذلك في آن واحد..وعدت إلي بيتنا.. فقد أصبح لي إخوة.. وماتت أمنا, ومات أبي.. وقد جمعنا الحب.. وبدأنا حياة جديدة.. حياة بلا ورق وبلا ندم!
posted by مفيش فايدة at 4:12 AM
0 Comments:
Post a Comment
<< Home