من أنا؟
Thursday, August 9, 2007
صرخة ملل
بقلم: أنيس منصور
بماذا تصف الطفل الذي ينحني علي الأرض فجأة ويلتقط شيئا يخفيه في جيبه, ثم يتجه إليك بريء اليدين وإن كان البريق في عينيه, والاهتمام في وجهه, والحرص في أصابعه, يفضح سعادته بالكنز الذي عثر عليه, ولو بحثت أنت عن مصدر هذه السعادة لوجدتها ظلطة ملونة؟!الوصف الوحيد لهذه الحالة: أن هذا الطفل لايعرف الملل!!ولم يكن هذا الطفل في حاجة إلي أن يخفي عنك هذه الظلطة لأنه هو لايعرف قيمة انعدام الملل, ولأنك أنت لايمكن ان تراها ولو رأيتها فلن تجد فيها أي معني ولا أي وزن..لأنك أنت تعرف الملل.. ولأن الملل مرض يصيب الكبار, ولايعرفه الصغار الذين حين يجدون ظلطة, يحسون كأنهم اكتشفوا حجر رشيد المكتوب بكل اللغات.. ويصبح هذا الحجر وبسرعة, مصدر الصوت والضوء في حياتهم.. فكل شيء عند الأطفال له وزن, له قيمة, له فائدة.. كل شيء مثلهم طفل, مليان حياة وحماسا.. كل شيء يتحدث إليهم, ويشغلهم وينشغل بهم.. انهم لايعرفون الملل!ولكن الكبار لايرون الظلط... ولو رأوه لداسوه..كما يدوسون كل المتع الصغيرة, واللذات العابرة.. لأن عيونهم عاجزة عن رؤيته, واذانهم قاصرة عن سماعه.. وحياتهم مليئة بالثقوب, مثل شبكة واسعة الخيوط, فكل شيء تلتقطه لكي يسقط منها, كل شيء مثل كل شيء. ولا وزن له ولاقيمة ولافائدة... كل شيء كان قريبا ثم أصبح بعيدا.. كل حجر رشيد أصبح ظلطه.. مجرد قطعة من الحجر تعترض طريقهم.. حتي هذا الطريق لم يعد هؤلاء الكبار يعرفون له معني أوطعما.. إنهم يعرفون الملل!والذي يختار الزواج أو الحياة الزوجية كنموذج للملل الذي يحميه القانون, فقد اختار مثلا يعرفه كل الناس..وإن كان الزواج ليس هو العلاقة الوحيدة التي تنفرد بالملل, فهناك علاقات كثيرة مملة.. ولكن الزواج هو أعمق هذه العلاقات, واكثرها تنوعا واكثرها دلاله علي أن الأزواج قد كبروا.. لقد نضجوا.. ومن النضج والكبر في السن يولد الملل..والكلام عن العلاقات الزوجية ـــ كنموذج ـــ يبين لنا أسباب الملل في بقية العلاقات الانسانية الأخري, وهي كثيرة ومتعددة..فقبل الزواج يكون كل شيء مبالغا فيه.. إحساسات الزوجين مرتفعة الحرارة, نظرة الزوجين إلي الدنيا وردية, الصعوبات التي تعترض طريقهما ليست إلا اكواما من القش تطير من أول نفخة, أو نفختين, وان الزوج نفسه قادر علي ان يحل كل مشكلة, وان يذيب الحديد والجليد.. وان الحب صانع المعجزات وان المرأة هي الحب, ولذلك فالزوجة هي مصنع المعجزات.كل هذا قبل الزواج, وكل هذه المبالغات معناها سوء تقدير للحقيقة.. اي اعطاء الواقع ألوانا وصفات لاوجود لها..فتصبح الزوجة ـــ والزوج أيضا ــ كمحارب نزل بمظلة ومعه خريطة وتعليمات تقول له: ستجد عند قدميك عددا كبيرا من الجنود, كلهم في خدمتك وكلهم يعرفون الطريق إلي استحكامات العدو, يكفي ان يروك ليقوموا لك بكل شيء.. ويهبط الجندي, ولايجد أحدا. بل ربما يسقط في الماء, أو يسقط في قلب معسكرات العدو..إن الازواج يتصورون أن وثيقة الزواج هي شيك علي بياض يصرف من أي بنك, في أي وقت, أو أنها خطاب توصية لحل كل مشكلة, أو انها كلمة سر الليل يدخلون بها أي معسكر من معسكرات الحياة.وهنا يشعر الازواج بما يشعر به الجندي الذي سقط من المظلة, وارتطم بالصخور, أو قابلته النيران.. بل بشيء آخر أقسي من الصخر.. لقد اصطدم بالواقع المر.. فقد اكتشف ان العملات التي في جيبه كلها زائفة!!هذه الصدمة تصيبه بخيبة الأمل لأنه وجد شيئا آخر غير الذي كان يتوقعه.. وخيبة الأمل تصيبه بالفتور.. والفتور يجعله يسيء تقدير كل شيء.. يبالغ في تفاهة أي شيء.. وبذلك يجد الأزواج أنفسهم محاصرين بين نوعين من المبالغة.. مبالغة في قيمة كل شيء قبل الزواج.. ومبالغة في تفاهة كل شيء بعد الزواج!!والمبالغة هي البداية الطبيعية إلي الملل.. لأن المبالغة تجعل كل شيء يفقد قيمته الحقيقية.. فيصاب الأزواج بخيبة الأمل التي يتولد عنها القرف.. والقرف هو الاسم الحركي لشخصية خطيرة اسمها: الملل!وبعد هذه الصدمة يكتشف كلا الزوجين, إنهما بلا مزايا خاصة.. وإنهما مثل كل الناس.. وان الحياة الزوجية كأية حياة أخري.. وانه لاجديد تحت شمس الحب..وشيء آخر يكتشفه الأزواج: ان حياتهم متكررة.. كل شيء فيها ثابت لايتغير.. نفس الوجه, نفس العبارات, نفس القعدة.. نفس النومة.. بل ان كلا منهما يعرف مقدما ماسيقوله الآخر... خلاص.. كل واحد منهما حفظ الآخر, ويستطيع أن يعرف ما سيقوله وما سيفعله دون ان يقترب منه, ودون ان يراه.. كل واحد منهما حفظ الآخر علي الغايب.. وهم أيضا مصابون في كل مشاعرهم بخيبة الأمل!!ولكن لماذا يتحمل الأزواج كل أعباء القرف والملل بسبب التكرار, مع أن في حياتنا العادية علاقات كثيرة جدا متكررة, ولانملها ولانصدم فيها.. ولا تصيبنا بخيبة الأمل...فنحن نأكل ونشرب وننام كل يوم.. ونحن نذهب الي العمل ونجلس علي نفس المكتب ونلتقي بنفس الوجوه ونعالج نفس المشاكل, ونكرر نفس الشكوي وآمالنا محدودة, فهي مكررة....ومع هذا التكرار المستمر لا نشكو من العمل ولا نقرف من الاستمرار فيه!فلماذا الزواج وحده هو الذي انفرد بالملل لأن كل شيء فيه يتكرر بإنتظام!!والجواب علي ذلك هو المبالغة أيضا في أهمية وخطورة الزواج والمعجزات التي ستتحقق فيه.ونحن نمل الشيء الذي يتكرر.. ونمل أيضا الشيء الذي يتغير..فالشيء الذي يتكرر باستمرار شيء لا يتغير.. انه حالة ثابته الوقوع..ولكن التغير المستمر يضايقنا أيضا.. ويجعلنا نمل لأن التغير المستمر أصبح عادة ثابته.. وهذه العادة الثابته هي اننا في تغير دائم..فالرجل الذي يبيع في دكان, يشكو من الحبسة ومن الأرض الضيقة التي يتحرك فيها, وانه لم يبرح هذا المكان منذ عشرات السنين.والطيار والبحار كل منهما يشكو من انه تعب من اللف والدوران حول الأرض.. من قارة الي قارة.. وانه زهق من التغيير المستمر ومن الاهتزاز المستمر, وللهواء تحته أو الماء حواليه.. فقد أصبح التغيير شيئا ثابتا في حياته.. لقد أصبح منتهي أمل كل منهما أن يستقر.. ان تثبت الأرض تحت قدميه!!إن قصة د. جيكل ومستر هايد التي تروي لنا مشكله أحد العلماء الذي كان يتناول دواء, فيتحول الي شخص آخر.. ثم بعد أن ينتهي مفعول الدواء يعود إلي حالته الأولي.. إلي شخصيته الأولي..ان هذه القصة هي محاولة للقضاء علي الملل الذي كان يعانيه أحد العلماء ــ ويعانيه الانسان العادي أيضا ــ ولكن هذا العالم الكبير مل حياته.. مل هذا التغيير المستمر من شخص الي شخص.. ولو كان هذا العالم قادرا علي أن يتحول كل يوم إلي شخص أخر.. لكانت النتيجة ان يمل التغير المستمر..وفي هذه القصة رأينا هذا العالم الكبير أصبح يتحول بلا دواء.. وبلا مجهود الي الشخصية الأخري.. ورأينا انه كان يتعذب من هذا التغير لأنه تعب من التغير, ويريد أن يستقر: أن يثبت علي شخصية واحده.. لقد عرف الملل!وشهرزاد بطلة الف ليلة وليلة, كانت تروي لزوجها الملك شهريار, حكاية مثيرة غريبة كل ليلة.. حكاية مليئة بالخرافات والمعجزات.. ومع ذلك, ورغم هذا التغير المستمر كانت هي التي تتثاءب قبل الملك.. وكان الديك يؤذن لطلوع الفجر, كأنه كان متواطئا معها.. وكأنه يريد أن يضيف سببا آخر فلكيا إلي السبب النفسي والحقيقي وهو الملل!اذن.. فعدم التغيير يبعث علي الملل.. والتغير المستمر يبعث علي الملل..والزوج الذي يواجه في حياته عدم التغير يشكو من الملل.. والأعزب الذي يواجه في حياته تغيرا مستمرا يشكو من الملل.فما الذي يجعلنا ــ حقيقة ــ نمل الدنيا كلها؟اننا في الحقيقة لا نمل شيئا, وانما نحن نمل أنفسنا.. فنحن نحيط أنفسنا بما يعجبنا فقط.. بما يرضي أذواقنا فقط..فيصبح كل ما حولنا مرايا لنا.. صورا لنا.. معرضا مستمرا للوحات حياتنا..وكيف لا تمل أنت حياتك اذا كان كل من حولك يشبهك.. واذا كنت لا تسمع إلا صداك, ولا تري إلا ظلالك, ولا تشم إلا عرقك.. ولا تأكل إلا لحمك ولا تشرب إلا دمك.. ولا تشكو إلا من نفسك..لابد أن تعرف الملل..وهذا بالضبط ما يحدث لكل من يهرب من نفسه إلي شلة من الناس.. من المعارف.. من الأصدقاء.. إنه لاجيء إليهم وهو ككل لاجيء, يدخل بشروط المجتمع الجديد.. ويتشكل بهم, ويعتاد عليهم.. ويصبح مشابها لهم..والتشابه مع الآخرين, هو بداية الملل!!ان أي إنسان لا يستطيع ان يكون وحده.. ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يطبق الآخرين.. فهو هارب من نفسه, وهو هارب من الآخرين.. وهو هارب إليهم أيضا!!ولذلك فالهرب ليس حلا للملل.. هربك من نفسك ليس حلا, وهربك من غيرك, هو أيضا هرب.. وتبقي المشكلة قائمة..لقد جربت آلهة الأغريق طريق التسلل.. طريق الهرب..لقد كان آلهة الأغريق القادرون علي كل شيء, يملون حياتهم فوق الجبال, كانوا يملون عشرة الآلهة.. كانوا يملون الحياة المقدسة.. ولذلك كانوا يتشكلون في جلود البشر, ويدخلون جلود الحيوانات.. ثم يزهقون من الحيوانات.. ويتحولون إلي جبال وأنهار, ويتحدون مع البشر ضد الآلهة.. ضد أنفسهم.. ث يشكون من الحياة التي ليست بها صعوبات ولا مشاكل.. ويبكون للبشر.. ان أحد الآلهة كان يتمني ان يكون إنسانا لأنه تعب من حياة بلا صعوبات حياة لا مقاومة.. حتي الآلهة قد زهقوا من التغيير الذي لا نهاية له.. لقد كانوا يحسدون البشر.. مع أنهم هم الذين يخلقونهم.. كانوا يحسدون الانسان علي انه يعلم انه ضعيف. وانه لابد أن يموت, وانه مع ذلك يرفض ان يكون ضعيفا, وانه ينشد الخلود.. إنهم الأغنياء الذين يحسدون الفقراء علي أنهم ينامون علي الأرصفة نوما عميقا, في حين أنهم لا يرغبون في النوم فوق الفراش الوثير.. أنهم القادرون الذين يحسدون الضعفاء.. حتي الآلهة عرفوا الملل!!ولكن لابد من الخروج من دائرة الملل..واذا كان السرطان يجعلنا غير قادرين علي التركيز, غير قادرين علي أن نحصر كل ما حولنا بأعيننا أو بآذاننا أو بأيدينا, ونصبح كأننا في غيبوبة,أو كأننا علي حافه الوجود والعدم, فإن التركيز والاهتمام وحماس الأطفال هو القادر وحده علي تثبيت الدنيا حولنا, وصبغها في الوان الظلط ونقل اللمعان إلي أعيننا, والسعادة إلي وجوهنا..والغريب في أمر الشعور بالملل, انه لا يصيبنا وحدنا.. وإنما يصيب الدنيا من حولنا.. فكأن العالم كله سرحان.. الناس قد سرحوا فلم يعودوا يروننا أو يسمعوننا أويهتمون بنا.. ولم نعد نساوي عندهم شيئآ.. وكأن الكرة الأرضية هي الأخري قد سرحت فلم تعد تطبق قوانين الجاذبية علينا, فلم يعد لنا وزن. أو كأن الشمس أيضا قد نسيت أن تضيء لنا.. أو كأنها أرسلـــت شعاعاتها إلي كوكب آخر.. كل شيء لا يدري بنا, ولا صلة له بنا, نحن غائبون والدنيا كلها حاضرة.. أو كلنا غائبون عن هذه الدنيا!
بماذا تصف الطفل الذي ينحني علي الأرض فجأة ويلتقط شيئا يخفيه في جيبه, ثم يتجه إليك بريء اليدين وإن كان البريق في عينيه, والاهتمام في وجهه, والحرص في أصابعه, يفضح سعادته بالكنز الذي عثر عليه, ولو بحثت أنت عن مصدر هذه السعادة لوجدتها ظلطة ملونة؟!الوصف الوحيد لهذه الحالة: أن هذا الطفل لايعرف الملل!!ولم يكن هذا الطفل في حاجة إلي أن يخفي عنك هذه الظلطة لأنه هو لايعرف قيمة انعدام الملل, ولأنك أنت لايمكن ان تراها ولو رأيتها فلن تجد فيها أي معني ولا أي وزن..لأنك أنت تعرف الملل.. ولأن الملل مرض يصيب الكبار, ولايعرفه الصغار الذين حين يجدون ظلطة, يحسون كأنهم اكتشفوا حجر رشيد المكتوب بكل اللغات.. ويصبح هذا الحجر وبسرعة, مصدر الصوت والضوء في حياتهم.. فكل شيء عند الأطفال له وزن, له قيمة, له فائدة.. كل شيء مثلهم طفل, مليان حياة وحماسا.. كل شيء يتحدث إليهم, ويشغلهم وينشغل بهم.. انهم لايعرفون الملل!ولكن الكبار لايرون الظلط... ولو رأوه لداسوه..كما يدوسون كل المتع الصغيرة, واللذات العابرة.. لأن عيونهم عاجزة عن رؤيته, واذانهم قاصرة عن سماعه.. وحياتهم مليئة بالثقوب, مثل شبكة واسعة الخيوط, فكل شيء تلتقطه لكي يسقط منها, كل شيء مثل كل شيء. ولا وزن له ولاقيمة ولافائدة... كل شيء كان قريبا ثم أصبح بعيدا.. كل حجر رشيد أصبح ظلطه.. مجرد قطعة من الحجر تعترض طريقهم.. حتي هذا الطريق لم يعد هؤلاء الكبار يعرفون له معني أوطعما.. إنهم يعرفون الملل!والذي يختار الزواج أو الحياة الزوجية كنموذج للملل الذي يحميه القانون, فقد اختار مثلا يعرفه كل الناس..وإن كان الزواج ليس هو العلاقة الوحيدة التي تنفرد بالملل, فهناك علاقات كثيرة مملة.. ولكن الزواج هو أعمق هذه العلاقات, واكثرها تنوعا واكثرها دلاله علي أن الأزواج قد كبروا.. لقد نضجوا.. ومن النضج والكبر في السن يولد الملل..والكلام عن العلاقات الزوجية ـــ كنموذج ـــ يبين لنا أسباب الملل في بقية العلاقات الانسانية الأخري, وهي كثيرة ومتعددة..فقبل الزواج يكون كل شيء مبالغا فيه.. إحساسات الزوجين مرتفعة الحرارة, نظرة الزوجين إلي الدنيا وردية, الصعوبات التي تعترض طريقهما ليست إلا اكواما من القش تطير من أول نفخة, أو نفختين, وان الزوج نفسه قادر علي ان يحل كل مشكلة, وان يذيب الحديد والجليد.. وان الحب صانع المعجزات وان المرأة هي الحب, ولذلك فالزوجة هي مصنع المعجزات.كل هذا قبل الزواج, وكل هذه المبالغات معناها سوء تقدير للحقيقة.. اي اعطاء الواقع ألوانا وصفات لاوجود لها..فتصبح الزوجة ـــ والزوج أيضا ــ كمحارب نزل بمظلة ومعه خريطة وتعليمات تقول له: ستجد عند قدميك عددا كبيرا من الجنود, كلهم في خدمتك وكلهم يعرفون الطريق إلي استحكامات العدو, يكفي ان يروك ليقوموا لك بكل شيء.. ويهبط الجندي, ولايجد أحدا. بل ربما يسقط في الماء, أو يسقط في قلب معسكرات العدو..إن الازواج يتصورون أن وثيقة الزواج هي شيك علي بياض يصرف من أي بنك, في أي وقت, أو أنها خطاب توصية لحل كل مشكلة, أو انها كلمة سر الليل يدخلون بها أي معسكر من معسكرات الحياة.وهنا يشعر الازواج بما يشعر به الجندي الذي سقط من المظلة, وارتطم بالصخور, أو قابلته النيران.. بل بشيء آخر أقسي من الصخر.. لقد اصطدم بالواقع المر.. فقد اكتشف ان العملات التي في جيبه كلها زائفة!!هذه الصدمة تصيبه بخيبة الأمل لأنه وجد شيئا آخر غير الذي كان يتوقعه.. وخيبة الأمل تصيبه بالفتور.. والفتور يجعله يسيء تقدير كل شيء.. يبالغ في تفاهة أي شيء.. وبذلك يجد الأزواج أنفسهم محاصرين بين نوعين من المبالغة.. مبالغة في قيمة كل شيء قبل الزواج.. ومبالغة في تفاهة كل شيء بعد الزواج!!والمبالغة هي البداية الطبيعية إلي الملل.. لأن المبالغة تجعل كل شيء يفقد قيمته الحقيقية.. فيصاب الأزواج بخيبة الأمل التي يتولد عنها القرف.. والقرف هو الاسم الحركي لشخصية خطيرة اسمها: الملل!وبعد هذه الصدمة يكتشف كلا الزوجين, إنهما بلا مزايا خاصة.. وإنهما مثل كل الناس.. وان الحياة الزوجية كأية حياة أخري.. وانه لاجديد تحت شمس الحب..وشيء آخر يكتشفه الأزواج: ان حياتهم متكررة.. كل شيء فيها ثابت لايتغير.. نفس الوجه, نفس العبارات, نفس القعدة.. نفس النومة.. بل ان كلا منهما يعرف مقدما ماسيقوله الآخر... خلاص.. كل واحد منهما حفظ الآخر, ويستطيع أن يعرف ما سيقوله وما سيفعله دون ان يقترب منه, ودون ان يراه.. كل واحد منهما حفظ الآخر علي الغايب.. وهم أيضا مصابون في كل مشاعرهم بخيبة الأمل!!ولكن لماذا يتحمل الأزواج كل أعباء القرف والملل بسبب التكرار, مع أن في حياتنا العادية علاقات كثيرة جدا متكررة, ولانملها ولانصدم فيها.. ولا تصيبنا بخيبة الأمل...فنحن نأكل ونشرب وننام كل يوم.. ونحن نذهب الي العمل ونجلس علي نفس المكتب ونلتقي بنفس الوجوه ونعالج نفس المشاكل, ونكرر نفس الشكوي وآمالنا محدودة, فهي مكررة....ومع هذا التكرار المستمر لا نشكو من العمل ولا نقرف من الاستمرار فيه!فلماذا الزواج وحده هو الذي انفرد بالملل لأن كل شيء فيه يتكرر بإنتظام!!والجواب علي ذلك هو المبالغة أيضا في أهمية وخطورة الزواج والمعجزات التي ستتحقق فيه.ونحن نمل الشيء الذي يتكرر.. ونمل أيضا الشيء الذي يتغير..فالشيء الذي يتكرر باستمرار شيء لا يتغير.. انه حالة ثابته الوقوع..ولكن التغير المستمر يضايقنا أيضا.. ويجعلنا نمل لأن التغير المستمر أصبح عادة ثابته.. وهذه العادة الثابته هي اننا في تغير دائم..فالرجل الذي يبيع في دكان, يشكو من الحبسة ومن الأرض الضيقة التي يتحرك فيها, وانه لم يبرح هذا المكان منذ عشرات السنين.والطيار والبحار كل منهما يشكو من انه تعب من اللف والدوران حول الأرض.. من قارة الي قارة.. وانه زهق من التغيير المستمر ومن الاهتزاز المستمر, وللهواء تحته أو الماء حواليه.. فقد أصبح التغيير شيئا ثابتا في حياته.. لقد أصبح منتهي أمل كل منهما أن يستقر.. ان تثبت الأرض تحت قدميه!!إن قصة د. جيكل ومستر هايد التي تروي لنا مشكله أحد العلماء الذي كان يتناول دواء, فيتحول الي شخص آخر.. ثم بعد أن ينتهي مفعول الدواء يعود إلي حالته الأولي.. إلي شخصيته الأولي..ان هذه القصة هي محاولة للقضاء علي الملل الذي كان يعانيه أحد العلماء ــ ويعانيه الانسان العادي أيضا ــ ولكن هذا العالم الكبير مل حياته.. مل هذا التغيير المستمر من شخص الي شخص.. ولو كان هذا العالم قادرا علي أن يتحول كل يوم إلي شخص أخر.. لكانت النتيجة ان يمل التغير المستمر..وفي هذه القصة رأينا هذا العالم الكبير أصبح يتحول بلا دواء.. وبلا مجهود الي الشخصية الأخري.. ورأينا انه كان يتعذب من هذا التغير لأنه تعب من التغير, ويريد أن يستقر: أن يثبت علي شخصية واحده.. لقد عرف الملل!وشهرزاد بطلة الف ليلة وليلة, كانت تروي لزوجها الملك شهريار, حكاية مثيرة غريبة كل ليلة.. حكاية مليئة بالخرافات والمعجزات.. ومع ذلك, ورغم هذا التغير المستمر كانت هي التي تتثاءب قبل الملك.. وكان الديك يؤذن لطلوع الفجر, كأنه كان متواطئا معها.. وكأنه يريد أن يضيف سببا آخر فلكيا إلي السبب النفسي والحقيقي وهو الملل!اذن.. فعدم التغيير يبعث علي الملل.. والتغير المستمر يبعث علي الملل..والزوج الذي يواجه في حياته عدم التغير يشكو من الملل.. والأعزب الذي يواجه في حياته تغيرا مستمرا يشكو من الملل.فما الذي يجعلنا ــ حقيقة ــ نمل الدنيا كلها؟اننا في الحقيقة لا نمل شيئا, وانما نحن نمل أنفسنا.. فنحن نحيط أنفسنا بما يعجبنا فقط.. بما يرضي أذواقنا فقط..فيصبح كل ما حولنا مرايا لنا.. صورا لنا.. معرضا مستمرا للوحات حياتنا..وكيف لا تمل أنت حياتك اذا كان كل من حولك يشبهك.. واذا كنت لا تسمع إلا صداك, ولا تري إلا ظلالك, ولا تشم إلا عرقك.. ولا تأكل إلا لحمك ولا تشرب إلا دمك.. ولا تشكو إلا من نفسك..لابد أن تعرف الملل..وهذا بالضبط ما يحدث لكل من يهرب من نفسه إلي شلة من الناس.. من المعارف.. من الأصدقاء.. إنه لاجيء إليهم وهو ككل لاجيء, يدخل بشروط المجتمع الجديد.. ويتشكل بهم, ويعتاد عليهم.. ويصبح مشابها لهم..والتشابه مع الآخرين, هو بداية الملل!!ان أي إنسان لا يستطيع ان يكون وحده.. ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يطبق الآخرين.. فهو هارب من نفسه, وهو هارب من الآخرين.. وهو هارب إليهم أيضا!!ولذلك فالهرب ليس حلا للملل.. هربك من نفسك ليس حلا, وهربك من غيرك, هو أيضا هرب.. وتبقي المشكلة قائمة..لقد جربت آلهة الأغريق طريق التسلل.. طريق الهرب..لقد كان آلهة الأغريق القادرون علي كل شيء, يملون حياتهم فوق الجبال, كانوا يملون عشرة الآلهة.. كانوا يملون الحياة المقدسة.. ولذلك كانوا يتشكلون في جلود البشر, ويدخلون جلود الحيوانات.. ثم يزهقون من الحيوانات.. ويتحولون إلي جبال وأنهار, ويتحدون مع البشر ضد الآلهة.. ضد أنفسهم.. ث يشكون من الحياة التي ليست بها صعوبات ولا مشاكل.. ويبكون للبشر.. ان أحد الآلهة كان يتمني ان يكون إنسانا لأنه تعب من حياة بلا صعوبات حياة لا مقاومة.. حتي الآلهة قد زهقوا من التغيير الذي لا نهاية له.. لقد كانوا يحسدون البشر.. مع أنهم هم الذين يخلقونهم.. كانوا يحسدون الانسان علي انه يعلم انه ضعيف. وانه لابد أن يموت, وانه مع ذلك يرفض ان يكون ضعيفا, وانه ينشد الخلود.. إنهم الأغنياء الذين يحسدون الفقراء علي أنهم ينامون علي الأرصفة نوما عميقا, في حين أنهم لا يرغبون في النوم فوق الفراش الوثير.. أنهم القادرون الذين يحسدون الضعفاء.. حتي الآلهة عرفوا الملل!!ولكن لابد من الخروج من دائرة الملل..واذا كان السرطان يجعلنا غير قادرين علي التركيز, غير قادرين علي أن نحصر كل ما حولنا بأعيننا أو بآذاننا أو بأيدينا, ونصبح كأننا في غيبوبة,أو كأننا علي حافه الوجود والعدم, فإن التركيز والاهتمام وحماس الأطفال هو القادر وحده علي تثبيت الدنيا حولنا, وصبغها في الوان الظلط ونقل اللمعان إلي أعيننا, والسعادة إلي وجوهنا..والغريب في أمر الشعور بالملل, انه لا يصيبنا وحدنا.. وإنما يصيب الدنيا من حولنا.. فكأن العالم كله سرحان.. الناس قد سرحوا فلم يعودوا يروننا أو يسمعوننا أويهتمون بنا.. ولم نعد نساوي عندهم شيئآ.. وكأن الكرة الأرضية هي الأخري قد سرحت فلم تعد تطبق قوانين الجاذبية علينا, فلم يعد لنا وزن. أو كأن الشمس أيضا قد نسيت أن تضيء لنا.. أو كأنها أرسلـــت شعاعاتها إلي كوكب آخر.. كل شيء لا يدري بنا, ولا صلة له بنا, نحن غائبون والدنيا كلها حاضرة.. أو كلنا غائبون عن هذه الدنيا!
posted by مفيش فايدة at 4:43 AM
1 Comments:
This comment has been removed by the author.
Post a Comment
<< Home