من أنا؟

Thursday, August 9, 2007

صرخة ملل

بقلم‏:‏ أنيس منصور
بماذا تصف الطفل الذي ينحني علي الأرض فجأة ويلتقط شيئا يخفيه في جيبه‏,‏ ثم يتجه إليك بريء اليدين وإن كان البريق في عينيه‏,‏ والاهتمام في وجهه‏,‏ والحرص في أصابعه‏,‏ يفضح سعادته بالكنز الذي عثر عليه‏,‏ ولو بحثت أنت عن مصدر هذه السعادة لوجدتها ظلطة ملونة؟‏!‏الوصف الوحيد لهذه الحالة‏:‏ أن هذا الطفل لايعرف الملل‏!!‏ولم يكن هذا الطفل في حاجة إلي أن يخفي عنك هذه الظلطة لأنه هو لايعرف قيمة انعدام الملل‏,‏ ولأنك أنت لايمكن ان تراها ولو رأيتها فلن تجد فيها أي معني ولا أي وزن‏..‏لأنك أنت تعرف الملل‏..‏ ولأن الملل مرض يصيب الكبار‏,‏ ولايعرفه الصغار الذين حين يجدون ظلطة‏,‏ يحسون كأنهم اكتشفوا حجر رشيد المكتوب بكل اللغات‏..‏ ويصبح هذا الحجر وبسرعة‏,‏ مصدر الصوت والضوء في حياتهم‏..‏ فكل شيء عند الأطفال له وزن‏,‏ له قيمة‏,‏ له فائدة‏..‏ كل شيء مثلهم طفل‏,‏ مليان حياة وحماسا‏..‏ كل شيء يتحدث إليهم‏,‏ ويشغلهم وينشغل بهم‏..‏ انهم لايعرفون الملل‏!‏ولكن الكبار لايرون الظلط‏...‏ ولو رأوه لداسوه‏..‏كما يدوسون كل المتع الصغيرة‏,‏ واللذات العابرة‏..‏ لأن عيونهم عاجزة عن رؤيته‏,‏ واذانهم قاصرة عن سماعه‏..‏ وحياتهم مليئة بالثقوب‏,‏ مثل شبكة واسعة الخيوط‏,‏ فكل شيء تلتقطه لكي يسقط منها‏,‏ كل شيء مثل كل شيء‏.‏ ولا وزن له ولاقيمة ولافائدة‏...‏ كل شيء كان قريبا ثم أصبح بعيدا‏..‏ كل حجر رشيد أصبح ظلطه‏..‏ مجرد قطعة من الحجر تعترض طريقهم‏..‏ حتي هذا الطريق لم يعد هؤلاء الكبار يعرفون له معني أوطعما‏..‏ إنهم يعرفون الملل‏!‏والذي يختار الزواج أو الحياة الزوجية كنموذج للملل الذي يحميه القانون‏,‏ فقد اختار مثلا يعرفه كل الناس‏..‏وإن كان الزواج ليس هو العلاقة الوحيدة التي تنفرد بالملل‏,‏ فهناك علاقات كثيرة مملة‏..‏ ولكن الزواج هو أعمق هذه العلاقات‏,‏ واكثرها تنوعا واكثرها دلاله علي أن الأزواج قد كبروا‏..‏ لقد نضجوا‏..‏ ومن النضج والكبر في السن يولد الملل‏..‏والكلام عن العلاقات الزوجية ـــ كنموذج ـــ يبين لنا أسباب الملل في بقية العلاقات الانسانية الأخري‏,‏ وهي كثيرة ومتعددة‏..‏فقبل الزواج يكون كل شيء مبالغا فيه‏..‏ إحساسات الزوجين مرتفعة الحرارة‏,‏ نظرة الزوجين إلي الدنيا وردية‏,‏ الصعوبات التي تعترض طريقهما ليست إلا اكواما من القش تطير من أول نفخة‏,‏ أو نفختين‏,‏ وان الزوج نفسه قادر علي ان يحل كل مشكلة‏,‏ وان يذيب الحديد والجليد‏..‏ وان الحب صانع المعجزات وان المرأة هي الحب‏,‏ ولذلك فالزوجة هي مصنع المعجزات‏.‏كل هذا قبل الزواج‏,‏ وكل هذه المبالغات معناها سوء تقدير للحقيقة‏..‏ اي اعطاء الواقع ألوانا وصفات لاوجود لها‏..‏فتصبح الزوجة ـــ والزوج أيضا ــ كمحارب نزل بمظلة ومعه خريطة وتعليمات تقول له‏:‏ ستجد عند قدميك عددا كبيرا من الجنود‏,‏ كلهم في خدمتك وكلهم يعرفون الطريق إلي استحكامات العدو‏,‏ يكفي ان يروك ليقوموا لك بكل شيء‏..‏ ويهبط الجندي‏,‏ ولايجد أحدا‏.‏ بل ربما يسقط في الماء‏,‏ أو يسقط في قلب معسكرات العدو‏..‏إن الازواج يتصورون أن وثيقة الزواج هي شيك علي بياض يصرف من أي بنك‏,‏ في أي وقت‏,‏ أو أنها خطاب توصية لحل كل مشكلة‏,‏ أو انها كلمة سر الليل يدخلون بها أي معسكر من معسكرات الحياة‏.‏وهنا يشعر الازواج بما يشعر به الجندي الذي سقط من المظلة‏,‏ وارتطم بالصخور‏,‏ أو قابلته النيران‏..‏ بل بشيء آخر أقسي من الصخر‏..‏ لقد اصطدم بالواقع المر‏..‏ فقد اكتشف ان العملات التي في جيبه كلها زائفة‏!!‏هذه الصدمة تصيبه بخيبة الأمل لأنه وجد شيئا آخر غير الذي كان يتوقعه‏..‏ وخيبة الأمل تصيبه بالفتور‏..‏ والفتور يجعله يسيء تقدير كل شيء‏..‏ يبالغ في تفاهة أي شيء‏..‏ وبذلك يجد الأزواج أنفسهم محاصرين بين نوعين من المبالغة‏..‏ مبالغة في قيمة كل شيء قبل الزواج‏..‏ ومبالغة في تفاهة كل شيء بعد الزواج‏!!‏والمبالغة هي البداية الطبيعية إلي الملل‏..‏ لأن المبالغة تجعل كل شيء يفقد قيمته الحقيقية‏..‏ فيصاب الأزواج بخيبة الأمل التي يتولد عنها القرف‏..‏ والقرف هو الاسم الحركي لشخصية خطيرة اسمها‏:‏ الملل‏!‏وبعد هذه الصدمة يكتشف كلا الزوجين‏,‏ إنهما بلا مزايا خاصة‏..‏ وإنهما مثل كل الناس‏..‏ وان الحياة الزوجية كأية حياة أخري‏..‏ وانه لاجديد تحت شمس الحب‏..‏وشيء آخر يكتشفه الأزواج‏:‏ ان حياتهم متكررة‏..‏ كل شيء فيها ثابت لايتغير‏..‏ نفس الوجه‏,‏ نفس العبارات‏,‏ نفس القعدة‏..‏ نفس النومة‏..‏ بل ان كلا منهما يعرف مقدما ماسيقوله الآخر‏...‏ خلاص‏..‏ كل واحد منهما حفظ الآخر‏,‏ ويستطيع أن يعرف ما سيقوله وما سيفعله دون ان يقترب منه‏,‏ ودون ان يراه‏..‏ كل واحد منهما حفظ الآخر علي الغايب‏..‏ وهم أيضا مصابون في كل مشاعرهم بخيبة الأمل‏!!‏ولكن لماذا يتحمل الأزواج كل أعباء القرف والملل بسبب التكرار‏,‏ مع أن في حياتنا العادية علاقات كثيرة جدا متكررة‏,‏ ولانملها ولانصدم فيها‏..‏ ولا تصيبنا بخيبة الأمل‏...‏فنحن نأكل ونشرب وننام كل يوم‏..‏ ونحن نذهب الي العمل ونجلس علي نفس المكتب ونلتقي بنفس الوجوه ونعالج نفس المشاكل‏,‏ ونكرر نفس الشكوي وآمالنا محدودة‏,‏ فهي مكررة‏....‏ومع هذا التكرار المستمر لا نشكو من العمل ولا نقرف من الاستمرار فيه‏!‏فلماذا الزواج وحده هو الذي انفرد بالملل لأن كل شيء فيه يتكرر بإنتظام‏!!‏والجواب علي ذلك هو المبالغة أيضا في أهمية وخطورة الزواج والمعجزات التي ستتحقق فيه‏.‏ونحن نمل الشيء الذي يتكرر‏..‏ ونمل أيضا الشيء الذي يتغير‏..‏فالشيء الذي يتكرر باستمرار شيء لا يتغير‏..‏ انه حالة ثابته الوقوع‏..‏ولكن التغير المستمر يضايقنا أيضا‏..‏ ويجعلنا نمل لأن التغير المستمر أصبح عادة ثابته‏..‏ وهذه العادة الثابته هي اننا في تغير دائم‏..‏فالرجل الذي يبيع في دكان‏,‏ يشكو من الحبسة ومن الأرض الضيقة التي يتحرك فيها‏,‏ وانه لم يبرح هذا المكان منذ عشرات السنين‏.‏والطيار والبحار كل منهما يشكو من انه تعب من اللف والدوران حول الأرض‏..‏ من قارة الي قارة‏..‏ وانه زهق من التغيير المستمر ومن الاهتزاز المستمر‏,‏ وللهواء تحته أو الماء حواليه‏..‏ فقد أصبح التغيير شيئا ثابتا في حياته‏..‏ لقد أصبح منتهي أمل كل منهما أن يستقر‏..‏ ان تثبت الأرض تحت قدميه‏!!‏إن قصة د‏.‏ جيكل ومستر هايد التي تروي لنا مشكله أحد العلماء الذي كان يتناول دواء‏,‏ فيتحول الي شخص آخر‏..‏ ثم بعد أن ينتهي مفعول الدواء يعود إلي حالته الأولي‏..‏ إلي شخصيته الأولي‏..‏ان هذه القصة هي محاولة للقضاء علي الملل الذي كان يعانيه أحد العلماء ــ ويعانيه الانسان العادي أيضا ــ ولكن هذا العالم الكبير مل حياته‏..‏ مل هذا التغيير المستمر من شخص الي شخص‏..‏ ولو كان هذا العالم قادرا علي أن يتحول كل يوم إلي شخص أخر‏..‏ لكانت النتيجة ان يمل التغير المستمر‏..‏وفي هذه القصة رأينا هذا العالم الكبير أصبح يتحول بلا دواء‏..‏ وبلا مجهود الي الشخصية الأخري‏..‏ ورأينا انه كان يتعذب من هذا التغير لأنه تعب من التغير‏,‏ ويريد أن يستقر‏:‏ أن يثبت علي شخصية واحده‏..‏ لقد عرف الملل‏!‏وشهرزاد بطلة الف ليلة وليلة‏,‏ كانت تروي لزوجها الملك شهريار‏,‏ حكاية مثيرة غريبة كل ليلة‏..‏ حكاية مليئة بالخرافات والمعجزات‏..‏ ومع ذلك‏,‏ ورغم هذا التغير المستمر كانت هي التي تتثاءب قبل الملك‏..‏ وكان الديك يؤذن لطلوع الفجر‏,‏ كأنه كان متواطئا معها‏..‏ وكأنه يريد أن يضيف سببا آخر فلكيا إلي السبب النفسي والحقيقي وهو الملل‏!‏اذن‏..‏ فعدم التغيير يبعث علي الملل‏..‏ والتغير المستمر يبعث علي الملل‏..‏والزوج الذي يواجه في حياته عدم التغير يشكو من الملل‏..‏ والأعزب الذي يواجه في حياته تغيرا مستمرا يشكو من الملل‏.‏فما الذي يجعلنا ــ حقيقة ــ نمل الدنيا كلها؟اننا في الحقيقة لا نمل شيئا‏,‏ وانما نحن نمل أنفسنا‏..‏ فنحن نحيط أنفسنا بما يعجبنا فقط‏..‏ بما يرضي أذواقنا فقط‏..‏فيصبح كل ما حولنا مرايا لنا‏..‏ صورا لنا‏..‏ معرضا مستمرا للوحات حياتنا‏..‏وكيف لا تمل أنت حياتك اذا كان كل من حولك يشبهك‏..‏ واذا كنت لا تسمع إلا صداك‏,‏ ولا تري إلا ظلالك‏,‏ ولا تشم إلا عرقك‏..‏ ولا تأكل إلا لحمك ولا تشرب إلا دمك‏..‏ ولا تشكو إلا من نفسك‏..‏لابد أن تعرف الملل‏..‏وهذا بالضبط ما يحدث لكل من يهرب من نفسه إلي شلة من الناس‏..‏ من المعارف‏..‏ من الأصدقاء‏..‏ إنه لاجيء إليهم وهو ككل لاجيء‏,‏ يدخل بشروط المجتمع الجديد‏..‏ ويتشكل بهم‏,‏ ويعتاد عليهم‏..‏ ويصبح مشابها لهم‏..‏والتشابه مع الآخرين‏,‏ هو بداية الملل‏!!‏ان أي إنسان لا يستطيع ان يكون وحده‏..‏ ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يطبق الآخرين‏..‏ فهو هارب من نفسه‏,‏ وهو هارب من الآخرين‏..‏ وهو هارب إليهم أيضا‏!!‏ولذلك فالهرب ليس حلا للملل‏..‏ هربك من نفسك ليس حلا‏,‏ وهربك من غيرك‏,‏ هو أيضا هرب‏..‏ وتبقي المشكلة قائمة‏..‏لقد جربت آلهة الأغريق طريق التسلل‏..‏ طريق الهرب‏..‏لقد كان آلهة الأغريق القادرون علي كل شيء‏,‏ يملون حياتهم فوق الجبال‏,‏ كانوا يملون عشرة الآلهة‏..‏ كانوا يملون الحياة المقدسة‏..‏ ولذلك كانوا يتشكلون في جلود البشر‏,‏ ويدخلون جلود الحيوانات‏..‏ ثم يزهقون من الحيوانات‏..‏ ويتحولون إلي جبال وأنهار‏,‏ ويتحدون مع البشر ضد الآلهة‏..‏ ضد أنفسهم‏..‏ ث يشكون من الحياة التي ليست بها صعوبات ولا مشاكل‏..‏ ويبكون للبشر‏..‏ ان أحد الآلهة كان يتمني ان يكون إنسانا لأنه تعب من حياة بلا صعوبات حياة لا مقاومة‏..‏ حتي الآلهة قد زهقوا من التغيير الذي لا نهاية له‏..‏ لقد كانوا يحسدون البشر‏..‏ مع أنهم هم الذين يخلقونهم‏..‏ كانوا يحسدون الانسان علي انه يعلم انه ضعيف‏.‏ وانه لابد أن يموت‏,‏ وانه مع ذلك يرفض ان يكون ضعيفا‏,‏ وانه ينشد الخلود‏..‏ إنهم الأغنياء الذين يحسدون الفقراء علي أنهم ينامون علي الأرصفة نوما عميقا‏,‏ في حين أنهم لا يرغبون في النوم فوق الفراش الوثير‏..‏ أنهم القادرون الذين يحسدون الضعفاء‏..‏ حتي الآلهة عرفوا الملل‏!!‏ولكن لابد من الخروج من دائرة الملل‏..‏واذا كان السرطان يجعلنا غير قادرين علي التركيز‏,‏ غير قادرين علي أن نحصر كل ما حولنا بأعيننا أو بآذاننا أو بأيدينا‏,‏ ونصبح كأننا في غيبوبة‏,‏أو كأننا علي حافه الوجود والعدم‏,‏ فإن التركيز والاهتمام وحماس الأطفال هو القادر وحده علي تثبيت الدنيا حولنا‏,‏ وصبغها في الوان الظلط ونقل اللمعان إلي أعيننا‏,‏ والسعادة إلي وجوهنا‏..‏والغريب في أمر الشعور بالملل‏,‏ انه لا يصيبنا وحدنا‏..‏ وإنما يصيب الدنيا من حولنا‏..‏ فكأن العالم كله سرحان‏..‏ الناس قد سرحوا فلم يعودوا يروننا أو يسمعوننا أويهتمون بنا‏..‏ ولم نعد نساوي عندهم شيئآ‏..‏ وكأن الكرة الأرضية هي الأخري قد سرحت فلم تعد تطبق قوانين الجاذبية علينا‏,‏ فلم يعد لنا وزن‏.‏ أو كأن الشمس أيضا قد نسيت أن تضيء لنا‏..‏ أو كأنها أرسلـــت شعاعاتها إلي كوكب آخر‏..‏ كل شيء لا يدري بنا‏,‏ ولا صلة له بنا‏,‏ نحن غائبون والدنيا كلها حاضرة‏..‏ أو كلنا غائبون عن هذه الدنيا‏!‏
posted by مفيش فايدة at 4:43 AM

1 Comments:

This comment has been removed by the author.

July 21, 2013 at 4:54 PM  

Post a Comment

<< Home