من أنا؟

Thursday, October 11, 2007

كيف فصل انيس منصور

- علي أيامنا كانت الصحف تخضع للرقابة، وكنا نلعب مع الرقيب لعبة عسكر وحرامية.. وهو يحذف الأخبار التي يري منعها.. ونحن نتحايل عليه بإعادة كتابتها بصيغة أخري وعناوين جديدة، وأحيانًا نفلت من قلمه، وأحيانًا يكتشفها فيمنع نشرها..
ولم يكن قلم الرقيب مقصورًا علي الموضوعات أو الأخبار السياسية، بل كان يتدخل في التحقيقات الصحفية وأخبار الحوادث حتي صفحات الوفيات، فالمتوفي الذي لا يعجبه اسمه كان يحذف نعيه، بحجة أن اسمه مشترك مع اسم الرئيس عبدالناصر، والرئيس لم يكن علي علم بتدخل «الرقيب» في صفحات الوفيات.. وأذكر أن أحد الشخصيات اعترض علي عدم نشر نعي لأحد أقاربه كان ضابطًا كبيرًا في القوات المسلحة، واشتكي للرئاسة، ويومها جاءتنا تعليمات من السيد محمد أحمد، السكرتير الخاص للرئيس عبدالناصر وقتها، وسمح بالنشر.. وأصبحت هذه الموافقة سندًا، استفاد منه جميع الضباط عند نشر نعي أحد منهم..
أقول هذا بمناسبة الحديث عن حرية الصحافة التي ننعم بها الآن.. فهناك فرق كبير بين صحافة تخضع لقلم الرقيب، وصحافة تخضع لضمير الكاتب.
فالذين لم يعيشوا زمن الرقيب، عليهم أن يعلموا أن كتابًا كبارًا تعرضوا للفصل من صحفهم.. وبعضهم منع من الكتابة.. وربما يأتي اليوم الذي يعرف فيه أولادنا الصحفيون الشبان أننا بدأنا حياتنا الصحفية في الظلام، فهم أحسن منا الآن، لأنهم يتمتعون بمناخ الحرية.. فلا رقيب علي أقلامهم.. وليس هناك جهاز يقوم بتحليل ما يكتبونه، كما كانوا يفعلون معنا في عصر عبدالناصر.
- كاتبنا الكبير الأستاذ أنيس منصور تعرض للفصل مرتين أيام عبدالناصر، ويذكر أن المرحوم الكاتب الكبير توفيق الحكيم كانت له رواية عنوانها «السلطان الحائر».. فكتب الأستاذ منصور عن هذه الرواية تحت عنوان «حمار الشيخ عبد السلام» وذكر حكاية العز بن عبد السلام قاضي القضاة والذي كان يضطهد العبيد ويري أنه لا يحق لهم أن يكونوا أحرارًا.. وفي مرة ركب العز حماره ووقف به علي حدود مصر.. فقالوا إن العز يمثل العلماء.. والحمار نيابة عن الشعب المصري.
ويومها قامت القيامة.. لقد تبني جهاز المخابرات تحليل مقال الأستاذ أنيس منصور وفسروه علي طريقتهم وكانت النتيجة فصله من عمله ومنعه من الكتابة.. وسبحان الله أن تختفي هذه الأجهزة.. ويختفي الذين كانوا يديرونها.. ولم يختف قلم أنيس منصور.. لقد بقي القلم.. ومات عبد الناصر.. وحكاية أخري أرويها لهذا الجيل من أبنائي الصحفيين.. كاتبنا الكبير رحمه الله الأستاذ موسي صبري، علم بأنني علي موعد مع السيد زكريا محيي الدين، وكان وقتها وزيرًا للداخلية في السنوات الأولي للثورة.. وكان أقوي شخصية في مصر، فقد كانوا يطلقون عليه الشخصية الحديدية التي تسيطر علي أمن مصر.. وليس من عادة زكريا محيي الدين أن يتحدث لا مع الصحافة ولا الصحفيين.. وربما كنت محظوظًا في بداية عملي الصحفي بالاقتراب منه، ولا أنكر فضل هذاالرجل العظيم في تثبيت أقدامي في الصحافة فقد كان يحتضنني، وكنت الوحيد الذي أدخل بيته من الصحفيين.. ولأن أستاذي موسي صبري يعرفني.. وكان وقتها ممنوعًا من الكتابة علي أثر خلافه مع مجدي حسنين وهو أحد الضباط الأحرار، وأول من أنشأ مديرية التحرير.. فقد ناداني وسلمني رسالة لزكريا محيي الدين.
موسي صبري دخل الانتخابات البرلمانية لأول مرة في الستينيات وكان خصمه في دائرة قصر النيل مجدي حسنين، وتبادل الاثنان الحملات الملتهبة، وانتصر موسي صبري علي خصمه في الدعاية بأن أخرج له بيانًا يشكك في مصاريف مديرية التحرير، اعتبره الضباط الأحرار إساءة لهم فصدر قرار بوقفه عن الكتابة وهو رئيس تحرير صحيفة «الأخبار».. واكتشفت أن الرسالة التي حملتها منه للسيد زكريا محيي الدين هي التماس بعودته للكتابة.
- وجلست مع السيد زكريا محيي الدين وقرأ الرسالة.. ولأول مرة أسمع منه أن موسي صبري اسمه «موسي صبري كامل شنودة» عرفت أن وزير الداخلية يعرف عنه الكثير.
ثم روي لي قصة المطبوعات في مصر.. وقصة الانفلات.. وقال: نحن نرحب بالنقد لكن أن يتطاول أحد علي رجال النظام بالتشكيك في ذمته المالية، هذا هو العيب.
ثم استغرق وقتًا في التفكير، وطلب مني أن أطلب له موسي صبري علي التليفون.. ودار حوار بينهما عاد بعده موسي صبري إلي الكتابة في اليوم التالي.
- وحكاية أخري عن أستاذي موسي صبري رحمه الله.. فهو الذي علمني القيم في مشواري الصحفي وكيف أعتز بقلمي حتي ولو كنت مفلسًا.. فقد فوجئنا بمنعه من الكتابة.. عندما نشر مانشيت علي صدر «الأخبار» عنوانه «يطالبوننا بربط الأحزمة».. في مقال له يعلن انهيار اقتصادنا بسبب تدخلنا في حرب اليمن حيث كانت أكياس الذهب توزع وقتها علي بعض القيادات المصرية.. والحكومة تدعو الشعب إلي ربط الأحزمة.
- في يوم نشر المقال يتصادف أن الرئيس جمال عبد الناصر عقد مؤتمرًا صحفيا وقد سأله سليم اللوزي وكان وقتها رئيسًا لتحرير «الحوادث اللبنانية» عن حرية الصحافة في مصر، فرد عليه الرئيس قائلاً.. هل هناك حرية أكثر من الحرية التي يتمتع بها كاتب كبير مثل موسي صبري وقد تهجم اليوم علي قواتنا وهي تحارب في اليمن.
- وفي الليلة نفسها وبعد المؤتمر الصحفي صدرت الأوامر للأستاذ موسي صبري بأن يبقي في بيته ويخلي مكتبه في أخبار اليوم، وبعد فترة نقلوه محررًا في صحيفة الجمهورية وطلبوا منه أن يكتب عن المرأة ولا يكتب في السياسة.
- هذا التاريخ أرويه للصحفيين الشبان لكي يعرفوا أنهم يعيشون عصرًا لم تشهده الصحافة من قبل.. فهي تعيش الآن أزهي عصورها في عصر مبارك.
لذلك أقول لهم.. كونوا أمناء علي الكلمة، لا تستخدموا أقلامكم كسلاح في الإساءة أو التشهير، اجعلوا نقدكم نقدًا بناء وليس هدامًا، اكشفوا عن بؤر الفساد ولا تخفوها، لا تسلموا أنفسكم لرجال المال والأعمال، حتي لا تكونوا مثل قلة من الذين سبقوكم فتحولوا إلي مستشارين معهم وباعوا لهم أقلامهم.. إن الصحافة تريدكم الآن فرسانًا للكلمة الشريفة فلا تخذلونها.. ضعوا مصر فوق رؤوسكم واعلموا أن حاكمها يساند الرأي ولا يقصف الأقلام وإن كان قد بقي موضوع واحد في ملفه الصحفي.. هو أن يحقق مبارك وعده الرئاسي بإلغاء حبس الصحفيين حتي تظل الصحافة في عهده حرة بلا رقيب أو سجان.

posted by مفيش فايدة at 3:24 AM

0 Comments:

Post a Comment

<< Home