من أنا؟
Thursday, October 18, 2007
الاستاذ الكبير انيس منصور والشباب
الإنسان يحاول دائما أن يتوافق مع الدنيا حوله.. مع الكون.. مع نفسه, وغيره من الناس.. بين القديم والجديد.. بين الأمل واليأس.. الصحة والمرض..
يحاول الإنسان أن يواجه العواصف والزلازل والمحيطات.. ويحاول أن يتوافق وأن يتغلب.. وأن يسيطر. أن يسيطر علي البيئة وعلي الكواكب الأخري.. وقد وصل الإنسان إلي القمر وإلي كواكب المجموعة الشمسية.. هذه السفن تحمل رسائل إلي أي كائنات أخري عاقلة تبلغها بعد آلاف السنين, لعل أحدا يدري بنا ويحدثنا ويساعدنا علي معرفة الكون وحل مشاكلنا.. أي اننا نريد أن نستفيد من تجاربه هو..
وعلي الرغم من أن الإنسان هو الذي اخترع العقول الالكترونية ونقل إليها كل المعلومات والعمليات الحسابية المعقدة, فإن العقل الإنساني يعتمد تماما علي هذه العقول.. فهو أسير لها مربوط بها.. مع أنه الذي أبدعها.. ولا يوجد مكان ليس به عقل الكتروني.. ولا سفينة ولا مكوك ليس به عشرات العقول الالكترونية.. وكل هذه العقول تعتمد علي مئات العقول التي تتابعها وتوجهها من سطح الأرض..
وهذه الحيرة التي تصيب الإنسان سببها الصعوبات الجديدة في مواجهة الدنيا.. والمجتمع والكون.. وهذا القلق وهذا الخوف من الموت النووي قد أصاب الناس جميعا.. والشباب أكثر الناس احساسا بالحاضر وقلقا علي المستقبل.. كل الشباب في كل الدنيا.. والعالم لأنه أصبح قريبا بعضه من بعض.. فالذي يحدث في أمريكا يخيف الذين في الصين, والذين في الصين يهزون الذين في أوروبا. وأوروبا تزعزع الشرق..
وقد عايشت الشباب طوال عمري..
فعندما كنت مدرسا في الجامعة كان الطلبة في مثل سني.. وبعضهم كان أكبر.. بل تصادف أن من تلامذتي واحدا من أقاربي هو الذي علمني حروف الهجاء وأنا طفل..
وعندما اشتغلت بالصحافة كنت شابا.. وعندما رأست تحرير مجلة الجيل كان المحررون صغارا في مثل سني.. فكانوا مادتي العلمية.. فمنهم وعنهم أكتب وإليهم أيضا.
وكنت دائما وسط الشباب ومازلت, فهم مداد قلمي وألوان فرشاتي.. وهم رؤيتي الفلسفية, وهم عناصري السياسية وجذوري الأدبية.. وعندما كنت رئيسا لتحرير آخر ساعة سنة 1970 كان من بين المحررين تلامذتي في الجامعة.. وكانوا شبابا أيضا.. وعندما أنشأت مجلة أكتوبر كان أكثر المحررين شبابا لم يعملوا بالصحافة من قبل.. فكانوا زهورا يانعة لامعة شبابا يريد ويحاول ويصر علي أن يصل وأن ينجح.. ونجحت مجلة أكتوبر بحيوية شبابها وطموحهم.. وأحلامهم وعنادهم..
وأصدرت عددا كبيرا من الكتب عن الشباب وإليه..
ولحسن حظ مصر فإن أكثر من نصف أبنائنا من الشباب الكبار والصغار.. تصور أن بلدنا أربعون مليونا من الشباب.. أعظم ثروة بشرية.. أروع قوة دافعة..
والشباب من أهم صفاته: النزاهة والطموح..
فهو علي خلق.. ويريد أن ينجح.. أن تنجح بلاده.. وليس شباب مصر وحدها الذي يريد أن يفعل شيئا وأن يحقق الكثير وأن يلحق بالدول الأخري.. وإنما هذه هي أحلام الشباب في كل الدنيا. ولأنه شباب فهو يتعجل.. ولأنه يتعجل فهو يغلط.. ولأنه يغلط فإنه يقع تحت ظلم الكبار.. فهم يرون أنه مادام قد أخطأ في الحساب فهو لا يعرف الصواب.. فالخطأ احتكار للشباب, والصواب احتكار للكبار.. وهذا ظلم.. فالذي يعمل لابد أن يخطئ وأن يصيب.. وأن يتعلم من خطئه, والتاريخ الإنساني كله أخطاء للشعوب وهي تحاول أن تكون ثابتة الخطوات.. وإذا لم يقع الطفل وهو يحاول أن ينتقل من مرحلة الزحف علي أربع إلي السير علي ساقين.. فلن يتعلم المشي والجري والرقص.. لن تقوي عضلاته, لن ينضج جهازه العصبي.. لن ينتقل من مرحلة إلي مرحلة.. من الطفولة إلي الشباب إلي الرجولة.. وهذا حال الأطفال والرجال في كل الدنيا,
سواء كانوا يعيشون في مجتمع زراعي أو صناعي. أو مجتمع زراعي يتحول إلي مجتمع صناعي.. فالطفل ينمو وفقا لبرنامج في داخله ويتحرك وفقا لبرنامج في خارجه.. ينمو من الداخل لكي يواجه النمو في الخارج.. ويتوافق أو يتفوق عليه.. وهذا هو التاريخ الإنساني كله.
فمن أجل أي شيء يعيش الإنسان.. الإنسان الشاب والإنسان الرجل؟!
إن هناك أهدافا كثيرة تختلف من شخص إلي شخص.. وفقا لثقافته وتقاليد بلاده وقدرته وسيطرة دولته عليه..
ولكن من الممكن أن نقول: إن هناك ثلاثة عوامل تتحكم في حياة الإنسان.. أي إنسان.. هي: الحب والفهم والإبداع..
ومن أجل هذه الأهداف أو بسببها يعمل الإنسان من مولده حتي مماته.. بهذا الترتيب أو أي ترتيب آخر.. ولكنها لا تنفصل بعضها عن بعض..
فكل شيء له قيمة يستحق من الإنسان أن يعيش من أجله وأن يضحي في سبيله, وتاريخ الإنسان طريق وهدف وتضحية من أجل الذي يقدس.. وتكون التضحية بأغلي ما عند الإنسان أو بحياة الإنسان نفسه.
والحب هو الذي يجعل لحياة الإنسان قيمة.. حتي حبه للحيوان والنبات..
والحب يأتي بالحب أيضا..
فأنت تحب فتاة وحبك لها يجعلها هي أيضا تحبك.. فالحب استثمار, أنت تستثمره عندها.. ويكون لهذا الحب مردود.. حب آخر.. أو حب أكثر.. أو علاقة قوية تربط بينكما.. وقد يؤدي حبك للفتاة أو حبها لك.. أن تتولد عداوة لك.. أو حقد عليك.. وهذا هو الذي يجعلك تتمسك وتصر وتضحي.
والحب هو القوة الوحيدة التي تتغلب علي أنانية الإنسان.. أي تتغلب علي انشغالك بنفسك والعمل من أجل كل مايجعلك أكبر وأغني وأقوي.. لأن الأناني هو الذي امتلأ بنفسه حتي لم يعد في نفسه مكان لشيء آخر.. أو لإنسان آخر.. لكن الحب هو القوة الوحيدة التي تفتح قلبك أكثر, وعقلك أوسع, وتفسح مكانا في قلبك لإنسان آخر.. وتنظر إلي مستقبلك بأربع عيون.
إن الحب قد حطم أنانيتك وهزم غرورك وانغلاقك علي طموحك وعداءك للآخرين..
والحب: رغبة..
وهناك نوعان من الرغبات: رغبة أن تعطي للآخرين. ورغبة أن تأخذ من الآخرين..
أما أن تعطي للآخرين, أو تبذل من أجلهم, فهي أن تشعر أنك أسمي, أنبل.. وأن العطاء واجب وأن تعطي بلا مقابل.. لأنك تعطي لواحد من الناس.. أو لكل الناس.. هذا هو الحب الحقيقي, لأنه يجردك من أن تكون أنت وحدك مركز الكون..
الحب الحقيقي هو الذي يدفعك الي معانقة الآخرين والانشغال بهم.. وان تجد في ذلك سعادة غامرة.. وان تضحي أيضا من أجل الآخرين..
وهذه هي الصفة الكبري عند الأنبياء والمصلحين..وأساس التضحية هو الارتباط بالآخرين.. لصالح الآخرين.. مهما كان العذاب بهم والشقاء معهم..
فالحب هكذا علاقة شاملة.. حب الناس جميعا..
حب الدنيا.. حب كل خلق الله.. حب الكون.. حب الله..
أما الرغبة الأخري فهي ان يكون كل شيء من أجلي أنا .. وفي سبيلي أنا.. وفي مصلحتي وفي خدمتي .. فأنا أحب نفسي.. وأري ان حب النفس هو أهم الوان الحب.. وان كل شيء يجب ان يكون مسخرا لمتعتي.. وراحتي.. وأن الناس جميعا أدوات.. أدواتي.. كأنهم أصابعي .. كأنهم اسناني.. أتناول بهم الأشياء..
فهذا الحب يجعل من الانسان أداة للانسان..
وهو أدني درجات الحب.. بل انه أقرب الي الكراهية .. كراهية الناس إلا اذا كانوا في خدمتي.. في مصلحتي.. الا اذا كانوا متعتي..
وهذه الرغبة تجعل كل شيء طعاما وشرابا أتناوله .. فإذا أحب الواحد منا فتاة, هذه الفتاة شيء.. أداة.. وسيلة وليست بشرا مثله.. فإنه يقدرها كشيء جميل.. تمثال.. لوحة.. ولكن ليست بشرا!!
وهناك جنس بين المحبين.. وهذا طبيعي, ولكن هناك فارقا كبيرا جدا بين ان يكون جنسيا فقط.. وان يكون حبا يكمله الجنس.. أو حب الجنس, لأنه حب للشخص الآخر..
وهناك حب بلا جنس أيضا.. كحب جمال الطبيعة والأعمال الفنية من شعر وموسيقي.. وحب لجمال الكون..
ولكن الحب المتبادل بين رجل وامرأة يلهم الانسان القوة والشجاعة والتضحية والتقدم والبناء والابداع..
بل إن الانسان من الممكن ان يعمل ويعيش ويموت من أجل أناس لا وجود لهم.. كالذي يعمل من أجل ان يكون اطفال المستقبل سعداء.. انه يكد ويدرس ويتعب من أجل أناس لا وجود لهم ولا يعرفهم, ولكنه يعمل ويجيء عمله كأنه يراهم..
وهذا النوع من الحب هو: فائض الحب.. أي أنه حب كثير.. أكثر من احتياجه.. فهو أحب ثم فاض الحب من أعماقه فشمل الآخرين الذين لا نهاية لعددهم.
ومن الممكن أن يحب الانسان شخصا ليس موجودا.. كأن يحب أحد العلماء القدامي, أو الشعراء.. أو رجال الدين.. أو الخلفاء أو القديسين.. فقد رأينا عددا كبيرا من الباحثين يفنون أعمارهم بحثا ودراسة لشخصيات ماتت منذ مئات السنين.
لقد أضاع هؤلاء الباحثون أعمارهم وأفنوها حبا لأناس لا وجود لهم..
ووجد هؤلاء الباحثون أنهم حققوا دواءهم بهذا الحب.. وان حبهم قد تحقق بالبحث عن حياة وافكار اناس عشقوهم.. كأنهم لا يزالون أحياء..
فما أكثر القصائد واللوحات الفنية التي بقيت لنا بسبب أن رجالا أحبوا وماتت المحبوبة.. انها ماتت لكل الناس.. ولكنها لم تمت للمحب العاشق.. فكتبوا وبكوا ونظموا ورسموا دموعا بالألوان والنغمات.. وماتت المحبوبة, وعاش حب العاشق الفنان..
الشاعر العظيم الإيطالي دانتي أحب اثنتين: الفتاة بياترنيشه وأحب مدينة فلورنسه التي طردوه منها.. ومن أجل بياترنيشه وفي سبيلها كتب الشاعر الكوميديا المقدسة وجعل الفتاة بياترنيشه هي التي تقوده من النار الي الجنة..
وعندما كان يبعث بخطاباته الي أصدقائه كان يوقع خطاباته بهذه العبارة دانتي ابن مدينة فلورنسه..
وما قاله قيس ليلي في ليلي وكذلك جميل بثينة والشاعر كثير عزة..
وما قاله الشاعر الألماني نوفلتس في محبوبته صوفيا.. وما قاله الشاعر الألماني ريلكه ومحبوبته نعمت علوي. وما قاله الفيلسوف الدنماركي.. كير كيجور في محبوبته رجينا...
وما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه وعالم النفس فرويد والشاعر ريلكه عندما أحب الثلاثة واحدة هي سالومي وماذا قال العقاد في سارة ومصطفي صادق الرافعي في مي ومحمود حسن اسماعيل في نانا..
انهم الأنبياء والقديسون هم الذين يحبون الناس ويعتزلون الحياة ويتألمون ويتعذبون من أجل الجميع..
كذلك فعل بوذا وفعل المسيح عليه السلام..
ومن أروع الصور الانسانية للحب الشامل لكل ما خلق الله حب القديس الايطالي فرانشيسكو ابن مدينة أسيزي.. انه أحب الحيوان ورسمه علي جدران الكنيسة.. ودخلت الطيور والحيوانات الكنيسة أيضا.. لأنها مخلوقات الله.. وأحب الشمس والقمر والهواء والماء لأنه يشعر بأخوة نحوها.. ومعها.. يشعر بأنه عضو في أسرة لا نهائية.. والقديس.. فرانشيسكو من أعظم وأروع مخلوقات الله..
والفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي يتحدث عن وحدة الوجود.. ان الوجود واحد.. أن الله في كل شيء.. وان كل شيء هو مظهر من مظاهر الله.. فالكون بكل ما فيه هو صورة الله, وقد رأيناها ولمسناها..
ولكن فلسفة ابن عربي لا تجعل للانسان دورا عظيما هاما .. وانما هو كالاحجار والأنهار والأزهار لا فرق.. فكلها تفيض من الله لتكون بهذه الأشكال والألوان.. ولكن القديس فرانشيسكو يري أن الانسان هو كل الكون..
فالكون عيناه ويداه وقلبه وعقله.. فالانسان عن طريق الحب قد اتسع قلبه لكل الكون.. فهو الذي يحب وهو الذي يذوب.. وهو الذي باختياره لا يكون شيئا, لأنه قد ذاب في المحبوب.. والكون كله هو المحبوب..
ومن الممكن أن أنشغل كثيرا جدا بهذا القديس..
أي: أفني عمري في عمره.. مع انه مات منذ 750 عاما.. فهذا الحب منزه عن الغرض.. وهو فائض حبي.. أي ما فاض من حبي عن احتياجي.. بل ان هذا الحب من الممكن أن يطغي علي كل حب في حياتي.. فتصبح الحياة كلها من أجل شخص لا وجود له.. ولكن أنا الذي أحببته في حياتي.. فكان حياتي!
يحاول الإنسان أن يواجه العواصف والزلازل والمحيطات.. ويحاول أن يتوافق وأن يتغلب.. وأن يسيطر. أن يسيطر علي البيئة وعلي الكواكب الأخري.. وقد وصل الإنسان إلي القمر وإلي كواكب المجموعة الشمسية.. هذه السفن تحمل رسائل إلي أي كائنات أخري عاقلة تبلغها بعد آلاف السنين, لعل أحدا يدري بنا ويحدثنا ويساعدنا علي معرفة الكون وحل مشاكلنا.. أي اننا نريد أن نستفيد من تجاربه هو..
وعلي الرغم من أن الإنسان هو الذي اخترع العقول الالكترونية ونقل إليها كل المعلومات والعمليات الحسابية المعقدة, فإن العقل الإنساني يعتمد تماما علي هذه العقول.. فهو أسير لها مربوط بها.. مع أنه الذي أبدعها.. ولا يوجد مكان ليس به عقل الكتروني.. ولا سفينة ولا مكوك ليس به عشرات العقول الالكترونية.. وكل هذه العقول تعتمد علي مئات العقول التي تتابعها وتوجهها من سطح الأرض..
وهذه الحيرة التي تصيب الإنسان سببها الصعوبات الجديدة في مواجهة الدنيا.. والمجتمع والكون.. وهذا القلق وهذا الخوف من الموت النووي قد أصاب الناس جميعا.. والشباب أكثر الناس احساسا بالحاضر وقلقا علي المستقبل.. كل الشباب في كل الدنيا.. والعالم لأنه أصبح قريبا بعضه من بعض.. فالذي يحدث في أمريكا يخيف الذين في الصين, والذين في الصين يهزون الذين في أوروبا. وأوروبا تزعزع الشرق..
وقد عايشت الشباب طوال عمري..
فعندما كنت مدرسا في الجامعة كان الطلبة في مثل سني.. وبعضهم كان أكبر.. بل تصادف أن من تلامذتي واحدا من أقاربي هو الذي علمني حروف الهجاء وأنا طفل..
وعندما اشتغلت بالصحافة كنت شابا.. وعندما رأست تحرير مجلة الجيل كان المحررون صغارا في مثل سني.. فكانوا مادتي العلمية.. فمنهم وعنهم أكتب وإليهم أيضا.
وكنت دائما وسط الشباب ومازلت, فهم مداد قلمي وألوان فرشاتي.. وهم رؤيتي الفلسفية, وهم عناصري السياسية وجذوري الأدبية.. وعندما كنت رئيسا لتحرير آخر ساعة سنة 1970 كان من بين المحررين تلامذتي في الجامعة.. وكانوا شبابا أيضا.. وعندما أنشأت مجلة أكتوبر كان أكثر المحررين شبابا لم يعملوا بالصحافة من قبل.. فكانوا زهورا يانعة لامعة شبابا يريد ويحاول ويصر علي أن يصل وأن ينجح.. ونجحت مجلة أكتوبر بحيوية شبابها وطموحهم.. وأحلامهم وعنادهم..
وأصدرت عددا كبيرا من الكتب عن الشباب وإليه..
ولحسن حظ مصر فإن أكثر من نصف أبنائنا من الشباب الكبار والصغار.. تصور أن بلدنا أربعون مليونا من الشباب.. أعظم ثروة بشرية.. أروع قوة دافعة..
والشباب من أهم صفاته: النزاهة والطموح..
فهو علي خلق.. ويريد أن ينجح.. أن تنجح بلاده.. وليس شباب مصر وحدها الذي يريد أن يفعل شيئا وأن يحقق الكثير وأن يلحق بالدول الأخري.. وإنما هذه هي أحلام الشباب في كل الدنيا. ولأنه شباب فهو يتعجل.. ولأنه يتعجل فهو يغلط.. ولأنه يغلط فإنه يقع تحت ظلم الكبار.. فهم يرون أنه مادام قد أخطأ في الحساب فهو لا يعرف الصواب.. فالخطأ احتكار للشباب, والصواب احتكار للكبار.. وهذا ظلم.. فالذي يعمل لابد أن يخطئ وأن يصيب.. وأن يتعلم من خطئه, والتاريخ الإنساني كله أخطاء للشعوب وهي تحاول أن تكون ثابتة الخطوات.. وإذا لم يقع الطفل وهو يحاول أن ينتقل من مرحلة الزحف علي أربع إلي السير علي ساقين.. فلن يتعلم المشي والجري والرقص.. لن تقوي عضلاته, لن ينضج جهازه العصبي.. لن ينتقل من مرحلة إلي مرحلة.. من الطفولة إلي الشباب إلي الرجولة.. وهذا حال الأطفال والرجال في كل الدنيا,
سواء كانوا يعيشون في مجتمع زراعي أو صناعي. أو مجتمع زراعي يتحول إلي مجتمع صناعي.. فالطفل ينمو وفقا لبرنامج في داخله ويتحرك وفقا لبرنامج في خارجه.. ينمو من الداخل لكي يواجه النمو في الخارج.. ويتوافق أو يتفوق عليه.. وهذا هو التاريخ الإنساني كله.
فمن أجل أي شيء يعيش الإنسان.. الإنسان الشاب والإنسان الرجل؟!
إن هناك أهدافا كثيرة تختلف من شخص إلي شخص.. وفقا لثقافته وتقاليد بلاده وقدرته وسيطرة دولته عليه..
ولكن من الممكن أن نقول: إن هناك ثلاثة عوامل تتحكم في حياة الإنسان.. أي إنسان.. هي: الحب والفهم والإبداع..
ومن أجل هذه الأهداف أو بسببها يعمل الإنسان من مولده حتي مماته.. بهذا الترتيب أو أي ترتيب آخر.. ولكنها لا تنفصل بعضها عن بعض..
فكل شيء له قيمة يستحق من الإنسان أن يعيش من أجله وأن يضحي في سبيله, وتاريخ الإنسان طريق وهدف وتضحية من أجل الذي يقدس.. وتكون التضحية بأغلي ما عند الإنسان أو بحياة الإنسان نفسه.
والحب هو الذي يجعل لحياة الإنسان قيمة.. حتي حبه للحيوان والنبات..
والحب يأتي بالحب أيضا..
فأنت تحب فتاة وحبك لها يجعلها هي أيضا تحبك.. فالحب استثمار, أنت تستثمره عندها.. ويكون لهذا الحب مردود.. حب آخر.. أو حب أكثر.. أو علاقة قوية تربط بينكما.. وقد يؤدي حبك للفتاة أو حبها لك.. أن تتولد عداوة لك.. أو حقد عليك.. وهذا هو الذي يجعلك تتمسك وتصر وتضحي.
والحب هو القوة الوحيدة التي تتغلب علي أنانية الإنسان.. أي تتغلب علي انشغالك بنفسك والعمل من أجل كل مايجعلك أكبر وأغني وأقوي.. لأن الأناني هو الذي امتلأ بنفسه حتي لم يعد في نفسه مكان لشيء آخر.. أو لإنسان آخر.. لكن الحب هو القوة الوحيدة التي تفتح قلبك أكثر, وعقلك أوسع, وتفسح مكانا في قلبك لإنسان آخر.. وتنظر إلي مستقبلك بأربع عيون.
إن الحب قد حطم أنانيتك وهزم غرورك وانغلاقك علي طموحك وعداءك للآخرين..
والحب: رغبة..
وهناك نوعان من الرغبات: رغبة أن تعطي للآخرين. ورغبة أن تأخذ من الآخرين..
أما أن تعطي للآخرين, أو تبذل من أجلهم, فهي أن تشعر أنك أسمي, أنبل.. وأن العطاء واجب وأن تعطي بلا مقابل.. لأنك تعطي لواحد من الناس.. أو لكل الناس.. هذا هو الحب الحقيقي, لأنه يجردك من أن تكون أنت وحدك مركز الكون..
الحب الحقيقي هو الذي يدفعك الي معانقة الآخرين والانشغال بهم.. وان تجد في ذلك سعادة غامرة.. وان تضحي أيضا من أجل الآخرين..
وهذه هي الصفة الكبري عند الأنبياء والمصلحين..وأساس التضحية هو الارتباط بالآخرين.. لصالح الآخرين.. مهما كان العذاب بهم والشقاء معهم..
فالحب هكذا علاقة شاملة.. حب الناس جميعا..
حب الدنيا.. حب كل خلق الله.. حب الكون.. حب الله..
أما الرغبة الأخري فهي ان يكون كل شيء من أجلي أنا .. وفي سبيلي أنا.. وفي مصلحتي وفي خدمتي .. فأنا أحب نفسي.. وأري ان حب النفس هو أهم الوان الحب.. وان كل شيء يجب ان يكون مسخرا لمتعتي.. وراحتي.. وأن الناس جميعا أدوات.. أدواتي.. كأنهم أصابعي .. كأنهم اسناني.. أتناول بهم الأشياء..
فهذا الحب يجعل من الانسان أداة للانسان..
وهو أدني درجات الحب.. بل انه أقرب الي الكراهية .. كراهية الناس إلا اذا كانوا في خدمتي.. في مصلحتي.. الا اذا كانوا متعتي..
وهذه الرغبة تجعل كل شيء طعاما وشرابا أتناوله .. فإذا أحب الواحد منا فتاة, هذه الفتاة شيء.. أداة.. وسيلة وليست بشرا مثله.. فإنه يقدرها كشيء جميل.. تمثال.. لوحة.. ولكن ليست بشرا!!
وهناك جنس بين المحبين.. وهذا طبيعي, ولكن هناك فارقا كبيرا جدا بين ان يكون جنسيا فقط.. وان يكون حبا يكمله الجنس.. أو حب الجنس, لأنه حب للشخص الآخر..
وهناك حب بلا جنس أيضا.. كحب جمال الطبيعة والأعمال الفنية من شعر وموسيقي.. وحب لجمال الكون..
ولكن الحب المتبادل بين رجل وامرأة يلهم الانسان القوة والشجاعة والتضحية والتقدم والبناء والابداع..
بل إن الانسان من الممكن ان يعمل ويعيش ويموت من أجل أناس لا وجود لهم.. كالذي يعمل من أجل ان يكون اطفال المستقبل سعداء.. انه يكد ويدرس ويتعب من أجل أناس لا وجود لهم ولا يعرفهم, ولكنه يعمل ويجيء عمله كأنه يراهم..
وهذا النوع من الحب هو: فائض الحب.. أي أنه حب كثير.. أكثر من احتياجه.. فهو أحب ثم فاض الحب من أعماقه فشمل الآخرين الذين لا نهاية لعددهم.
ومن الممكن أن يحب الانسان شخصا ليس موجودا.. كأن يحب أحد العلماء القدامي, أو الشعراء.. أو رجال الدين.. أو الخلفاء أو القديسين.. فقد رأينا عددا كبيرا من الباحثين يفنون أعمارهم بحثا ودراسة لشخصيات ماتت منذ مئات السنين.
لقد أضاع هؤلاء الباحثون أعمارهم وأفنوها حبا لأناس لا وجود لهم..
ووجد هؤلاء الباحثون أنهم حققوا دواءهم بهذا الحب.. وان حبهم قد تحقق بالبحث عن حياة وافكار اناس عشقوهم.. كأنهم لا يزالون أحياء..
فما أكثر القصائد واللوحات الفنية التي بقيت لنا بسبب أن رجالا أحبوا وماتت المحبوبة.. انها ماتت لكل الناس.. ولكنها لم تمت للمحب العاشق.. فكتبوا وبكوا ونظموا ورسموا دموعا بالألوان والنغمات.. وماتت المحبوبة, وعاش حب العاشق الفنان..
الشاعر العظيم الإيطالي دانتي أحب اثنتين: الفتاة بياترنيشه وأحب مدينة فلورنسه التي طردوه منها.. ومن أجل بياترنيشه وفي سبيلها كتب الشاعر الكوميديا المقدسة وجعل الفتاة بياترنيشه هي التي تقوده من النار الي الجنة..
وعندما كان يبعث بخطاباته الي أصدقائه كان يوقع خطاباته بهذه العبارة دانتي ابن مدينة فلورنسه..
وما قاله قيس ليلي في ليلي وكذلك جميل بثينة والشاعر كثير عزة..
وما قاله الشاعر الألماني نوفلتس في محبوبته صوفيا.. وما قاله الشاعر الألماني ريلكه ومحبوبته نعمت علوي. وما قاله الفيلسوف الدنماركي.. كير كيجور في محبوبته رجينا...
وما قاله الفيلسوف الألماني نيتشه وعالم النفس فرويد والشاعر ريلكه عندما أحب الثلاثة واحدة هي سالومي وماذا قال العقاد في سارة ومصطفي صادق الرافعي في مي ومحمود حسن اسماعيل في نانا..
انهم الأنبياء والقديسون هم الذين يحبون الناس ويعتزلون الحياة ويتألمون ويتعذبون من أجل الجميع..
كذلك فعل بوذا وفعل المسيح عليه السلام..
ومن أروع الصور الانسانية للحب الشامل لكل ما خلق الله حب القديس الايطالي فرانشيسكو ابن مدينة أسيزي.. انه أحب الحيوان ورسمه علي جدران الكنيسة.. ودخلت الطيور والحيوانات الكنيسة أيضا.. لأنها مخلوقات الله.. وأحب الشمس والقمر والهواء والماء لأنه يشعر بأخوة نحوها.. ومعها.. يشعر بأنه عضو في أسرة لا نهائية.. والقديس.. فرانشيسكو من أعظم وأروع مخلوقات الله..
والفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي يتحدث عن وحدة الوجود.. ان الوجود واحد.. أن الله في كل شيء.. وان كل شيء هو مظهر من مظاهر الله.. فالكون بكل ما فيه هو صورة الله, وقد رأيناها ولمسناها..
ولكن فلسفة ابن عربي لا تجعل للانسان دورا عظيما هاما .. وانما هو كالاحجار والأنهار والأزهار لا فرق.. فكلها تفيض من الله لتكون بهذه الأشكال والألوان.. ولكن القديس فرانشيسكو يري أن الانسان هو كل الكون..
فالكون عيناه ويداه وقلبه وعقله.. فالانسان عن طريق الحب قد اتسع قلبه لكل الكون.. فهو الذي يحب وهو الذي يذوب.. وهو الذي باختياره لا يكون شيئا, لأنه قد ذاب في المحبوب.. والكون كله هو المحبوب..
ومن الممكن أن أنشغل كثيرا جدا بهذا القديس..
أي: أفني عمري في عمره.. مع انه مات منذ 750 عاما.. فهذا الحب منزه عن الغرض.. وهو فائض حبي.. أي ما فاض من حبي عن احتياجي.. بل ان هذا الحب من الممكن أن يطغي علي كل حب في حياتي.. فتصبح الحياة كلها من أجل شخص لا وجود له.. ولكن أنا الذي أحببته في حياتي.. فكان حياتي!
posted by مفيش فايدة at 9:32 AM
0 Comments:
Post a Comment
<< Home